الرئيسية - السياسية - آثار حرب في مدينة لم تحارب
آثار حرب في مدينة لم تحارب
الساعة 03:00 صباحاً الثورة نت../

* بربطها بحبل غليظ تم التخلص من الشاشة التلفزيونية الواقعة منتصف الباص التابع لإحدى شركات النقل البري الخاصة وعلينا أن نسافر بأعيننا إلى الشاشة القريبة من السائق كي نشاهد العرض المكرر في كل رحلة من صنعاء وكان الصوت ينقطع ويبدأ صوت الجالس الى جواري ما قال عادل إمام ¿ تدريجيا فقدت اللياقة في الرد عليه ” معك اثنتين من الآذان ومعي مثلك كيف بسمع أحسن منك ” ولكنه لم يكف عن السؤال خاصة عندما كانت الضحكات تعلوا من جمهور المسرحية فيعتقد أن كلاما مهما قد فاته ولم يفتن ثم يرفع يده نحو السماعة المعلقة على السطح ويقرعها علها تعمل وتكفه عن الحاجة إلى أذني . هكذا كانت الساعات الثمان إلى تعز المدينة التي حرصت طيلة السنوات الثلاث الماضية على عدم الدخول الى قلبها واكتفى بالطواف حولها لأصل الى قريتي الأبعد منها ب30 كم – لكني الآن وجدت نفسي مجبرا لكسر الحضر والوصول إليها لرؤية ما حل بمدينة تجاذباتها السياسة وعصفت بتفاصيلها وطرقها وساكنيها وجعلتني أحاول المقارنة بينها وبين ماضيها الجميل الذي لم تطمسه هذه الزيارة . حين غادرت الحافلة أخذتني أقدامي للسير وكنت كمن يمشي بين ذكرياته متخليا عن حاضره . أخذ المشهد يتغير بصورة مخيبة لتوقعاتي وكلما تقدمت نحو قلب المدينة ” المركزي ” كانت المدينة تختفي ويقترب الريف – الشوارع الاسفلتية تركت كمريض فتح الأطباء جسمه ثم ذهبوا ليبحثوا له عن خيوط العملية – قال لي أحد المارين لها زمن قاصدا المساحات الترابية التي تجزأ الشوارع الى قطع شطرنج – ولأن وجهتي نحو طرف المدينة عصيفرة فلم يكن هناك ما يدعو للتفاؤل وبقيت متمسكا بالسير علي اجد ما يعيد الى الاطمئنان – تبدو الشوارع خالية من المارة وهو ما يسهل رؤية أوجاعها ليلا وكأنها تشتكي الى ابنها الذي غادرها منذ أعوام . غياب المدينة * في اليوم التالي وبينما كنت اشرح حالة ذهولي مما حل بالمدينة رفع احد الأصدقاء نبرة صوته ” كأنك قادما من لندن ” ونظرا لطول غيابي عنه تمكنت من إقناعه أن صنعاء ورغم فوضى شوارعها الا أنها جعلتني اشعر بفارق كبير بينها وبين ما أرى من غياب للمدينة – ” يبدو أنك غائب عن تعز منذ سنوات حتى تلاحظ التغير السلبي الذي لا يلحظه الا من غاب وقتا طويلا ” كلمات الزميل عبدالعزيز المجيدي هذه حفزتني لأشرح له سر الخوف من دخول تعز خلال الأعوام الماضية ” لم أكن أريد رؤية ذكرياتي الجميلة عن شوارعها تموت ” – كان شارع التحرير أول الأماكن التي ركضت فيها بسنواتي القليلة باحثا عن فانوس لأجل جدي الذي قال حين انطفأت الكهرباء فجأة قبل ما يزيد عن عقدين ” لو في معانا فانوس ” أخذت كلماته هذه والريالات التي جمعتها في حصالتي وبدأت البحث عن الفانوس برفقة أختي التي أيدت فكرة أن نفاجئه بالتقاط أمنيته البسيطة – هذا الشارع الآن ملتقى طريق القوافل الحديثة ” السيارات ” يسرع الجميع نحو التقاطعات العديدة ويتوقفون كل واحد منهم يعتقد أن من حقه أن يسير قبل الآخرين – على جانبي الطريق تحضر السيارات الخاصة بإيصال الراغبين بالسفر الى قراهم توجد الكثير منها موزعة على طرفي الشارع الذي تغيرت ملامحه كثيرا – ذهبت عيناي نحو الركن الذي كانت تتصدره بوفية ام المعارك وقد اصبحت محلا لبيع الأقمشة سبق صاحبها الآخرين بتسميتها في اليوم التالي لحرب الخليج ثم تنازل عن الإسم والمكان كما حدث بعيدا . المباني التي نبتت هنا فجأة كبرت بالسن وفقدت بريقها وبالكاد تحافظ على الوقوف دون تجديدات او تغير – الجسر القريب الذي ظل لغزا معماريا لطفولتي لم يحافظ على تماسكه وأصبح الآن يغني كلما مرت عليه سيارة عبر أوتاره الحديدة التي انكشف جزء منها لا أدري ما إذا كانت السنوات والسيارات الكثيرة سبب تحطم الإسمنت – وحتى لا أظلم التحرير الأعلى فهناك فندق حديث ربطه بالحاضر . في التحرير الأسفل يزداد تمزق الإسفلت ويظهر كسجاد فرشه العزوبين في صالة شقتهم أول يوم للإيجار ونسوا انه يمكن تغييره وتأخذ الحفر ذات العمر الطويل في التعمق وتهبط السيارات لتؤدي عمل الحفار – في صباح إحدى الأيام كانت امرأة واحدة تحاول رفع القمامة المكدسة على جانبي الطريق وهي تعلن عن سخطها من عدم مبالاة السكان بالنظافة ولم تجد من يجيبها – كما قال كثيرون فإن هذا الشارع وشوارع أخرى أخذت تتدهور نظافتها منذ العام 2011م حين اختفت سيارات النظافة خوفا من عمليات سطو قام بها مسلحون ادعوا حماية الثورة السلمية ومازال الوضع كما هو عليه ولم يتساءل احد لماذا لم تعد الأمور إلى نصابها وتتوقف السائلة القريبة عن القيام بدور سيارات جمع القمامة . لعب السياسة * لقد لعبت السياسة وحالة الانقسام دورا بارزا هنا ويمكن رؤية ذلك بوضوح فالمناطق التي سيطر عليها مسلحون في المدينة مازالت تحمل علامات ذلك بينما الشوارع التي لم يدخلها الصراع تماسكت وحافظت على بريقها . في المنطقة القريبة من هنا والمعروفة بالروضة تحاول العودة الى وضعها الطبيعي بعد أن كانت تحولت الى ساحة موت اختلطت فيها نوايا الثوار الصادقين مع بنادق المقاتلين الذين يمتلكون اهدافاٍ متناقضة . كان هذا الحي لا ينام من دوي القذائف المجهولة ولأنه عرف معنى أن تفقد السلم يطوقه امل العودة الى السكينة . فجأة وجدت نفسي ظهر إحدى أيام الزيارة أسير وسط ساحة الحرية التي اكتظت بالبشر وبأحلامهم الواسعة التي ضاق بها الحال فيما بعد – بعد ان تجاوزت كوم من التراب الذي نمت عليه أشجار صغيرة وصلت الساحة محاولا العثور على بصمة للامس القريب ليس هناك غير خيام فارغة الا من ملابس ممزقة موزعة على الأرض وبعض من الشعارات الثورية القديمة – كل من سألته عن معنى المكان سبقني للقول انه لا يريد الا ان ترفع ما تبقى من خيام فيه لأن السنوات مرت والشارع مغلق وحان الوقت للأهالي ان يستعيدوا أرضهم كما قال احدهم مع إمكانية أن يخرج المتظاهرون إلى المكان للتعبير عن رأيهم ثم العودة الى بيوتهم وليس الإقامة كما كان يحدث – ويبدو أن الساحة أقرب إلى أن ترفع خيامها خلال الفترة القادمة . هناك نقطة جعلتني أتوقف وتدور ذاكرتي وحزني البوابة الرئيسية للفندق الموجود في المكان والذي شهد إصابة إحدى النساء والتقطتها الكاميرا وهي تحاول النهوض للهروب من الموت الذي سطر هنا كلماته وأقيم في إحدى الزوايا عدد من القبور لمن استشهدوا كما تقول شواهدها . تبدو تعز في كامل هيئتها كمدينة خارجة من معركة لم تخضها ,تحمل آثار حرب لم تقام ولديها الكثير من المعاناة لتصححها – تعز لا تصلح ساحة لموت وكذا المدن الأخرى فالحروب تحولها الى ماضُ يصعب ان تخرج منه كما هو الحال الآن – لنساعدها للخروج من كل الماضي والصمود في وجه كل رغبات المتخبطين الذين أرادوا جعلها ساحة لصراعات متجددة . إن الدور الهام لهذه المدينة وإن كانت شوارعها مشققة بعنف هو صناعة البشر واعدادهم وليس قتلهم – شكلت تعز منارة للعمل السياسي منذ ما يفوق الخمسين عاما وذابت فيها هويات أحست بصغرها – لاذ إليها فنانون هربا بفنهم وكانت الأسطوانة التي تحفظ نتاجهم نزح اليها ساسة ما زالوا يتذكرون عطفها على غربتهم وشعروا انها مدينتهم الأولى – فهل تتخلى عن دورها لما هو أدنى – لا أعتقد …