بكائية: بدرٌ ما انطفأ (نص شعري)
الساعة 04:23 مساءً

مدخل: 
            في رحلة اليمانيين للانعتاق سقط الملايين، 
            ساعة في احتراب عقيم من أجل قبضة ريح و ماء، 
            و ساعة لاختلاف الضنون، 
            و ساعة لاتساع الجنون. 
            ساعة في حروب المخاليف و الاختلاف
            و في حروب للآخرين …و للطغاة و للدجالين،
            الى أن مات بدر في ساعة القيظ في تموز، ساعة لانظير لها، 
            فإما لا موت من بعدها ”لأن بعد الحرايب عافية“ 
            أو بكاء مستدام و أنين.

١- 
سأحدثكم عن بدر …
عن اكتماله
عن أفق احتماله
عن بدر ما اتسعت له سماء
عن بدر ما انقطع ضياء.

سأحدثكم عن بدر الذي يسكنني
ما انفك ممسكاً بتلابيبي
كي أقصص عليكم 
ملحمته بلا رتوش ولا رياء.


٢- 
في هامش من الزمان أضاءَ…
وُلِدَ بدر،
لم يدرك ”شِعْب العماصير “ أن شهيداً وُلِدَ للتو،
فالأرضُ باركت ميلاده،
ليُشهِدُ الدنيا على غضب السماء.

ولدنا معاً على قارعة الحشود الثورية
و الانتفاضات الجماهيرية،
بين مخاضات مليون قصيدة للرفاق 
سكبنا من روحينا انتصارات الجياع 
وانتظرنا معاً سبع حروب و لم يأت المطر.
كَبُرنا و شخنا معاً
شبعنا كلاماً شهياً معاً
و كدنا نسود العوالم فوق النصوص…
بنينا قصور الجياع 
حلمنا كثيراً…
 ومتنا كثيراً على طاولة الشاي في مقهى كاسترو 

في أماسينا كان بدر يصنع مروجاً كي نسرح فيها
لم يكن يملك قيمة قمحة فابتلعته السنابل،
لم يكن يحمل وردة جوري كما ادَّعت الأخبار،
أنا أعلم منكم ببدر الشهيد
سأروي حكايته للحالمات الباحثات عن الأمير
القادم على صهوة فقرنا 
            و جوعنا
            و عهرنا.

٣-
و حين باعدتنا المسارات،
بحثت عنه في صفحات الويب،
بين دفاتري 
وبين أشتات الرفاق…
وجدته شهيداً
تارة ميتاً
و تارة عاشقاً ثملاً في موته
كان يخادع الموت في كل آن…

”صديقي بدر!
مضت عشرون أبكتني
مضت عشرون ما جف البكاء
مضت عشرون أين ذهبت كل هذا الوقت،
فالعليقة خلف دارتنا جفت عروقها
و الحمام الذي اعتاد شرب الماء من طاسة أمي طار…
ضاعت مساراته في منافٍ بعيدة
و أم الخير في عين المكان.
مضت عشرون يا هذا
و آلاف المعارك في زماننا المستعار،
القيظ هشم اضلعي يا صاح
ألا يكفي تخفي…
ألا يكفي انتظار“.

٤-
خاطبني بعدنيته الواثقة…بلكنة مشفرة:
”بعد الموت القادم تصطحبني نخطب أم الخير… 
بعد البعث القادم أدعوك مع بقية الرفاق لوجبة سمك مشوي في صيرة “. 
كان بدر يعود من كل موت 
مزهواً بالقيامة
لم يخشَ سطوة الموت
كأنه كان يسخر منه.

في موته
لم يمارس الحب كأسلافه
لم ينعم بالأبوة
كان سلطاناً في مملكة الموت 
ومخذولاً في مملكته العدنية،
وحينما أفلت من كماشة الموت 
للمرة المليون صنع معنىً لهذا الخلود.

٥-
لطالما خاتل الموت 
يقول للموت أن يمهله ساعة،
أن ينتظره عند عتبه داره، 
ريثما ينتهي من حروبه ويعود
لكنه لم يعد! 
خدع الموت فكان مثل الفينيق  
يأتي في كل مرة
ويموت في كل مرة
ويعود للحياة ألف مرة…
يعيد تدوير الحياة. 

كنا نختلف دائما
فأنا أحب أن أكون حياً
و لا متسع عندي الا لموت واحد
و لبدر سلسال موته منذ الموتة الاولى،
له حرفنة اللعب مع الموت
في ذهاب وإياب
له حروبه الماضيات 
و حروبه القادمات
و حروب أُخر
و استشهادات كثر
جدلية لاتنتهي
و لي منها الانحسار.


٦-
الآن جسده يتحلل تتشربه الأرض 
دمه ينساب إلى بحر عدن
كم من أطنان الدم شرب هذا البحر المزهو بكبريائه.
يا أيها الموت تمهل!
كن رفيقاً بصديقي
فبدر لم يتأنق بعد، ولم يضع المشاقر  للرحيل.

أتفحص هيئته المتفسخة
كان السيل الكارثي يعيد صياغته لبعث جديد.
مزنٌ حمضي ينزل في شقوق الارض
ومن الثرى كان بدر ينبت من جديد
تسمق قامته رفعة الأولين
يغوص في مواكب من يعرجون الى السماء
في مهرجان الشهداء.

٧-
بدر تمامه ما انطفأ…
كان في زحمة القادمين إلى الوغى
لا ثوب يستر عورته و لا بندقية
يتطلع إلى موت رفيقه عله يفوز بموته
و من موت إلى موت يضوع المكان برائحة الفل اللحجي .

كان على شاكلة القديسين
لم يعشق و لم يرمق اكتنازة أنثى عابرة
رغم انسحاقاته تحت سلم الجارة الفارعة…
لطالما حدثني عن أحلامه التي تقصد دار أم الخير دون منال
و حينما صعدنا الدرجات وجدناه
ميتاً يخطب أم الخير بدر الشهداء.


٨-
كانت الساعة الثانية عشرة ظهراً 
غفى برهةً… دقيقةً…دهراً، و لكنه لم يكن ميتاً…
ها هو يرقد امامي
تحف به ملائكته أو ما شابه…
يرقد مزهوَّاً بنزفه
لا أريد أن أتفحص الجسد المثقوب
لا أريد أن أعدَّ الرصاصات 
فهن له، أوسمته المستحقة
لا أريد أن أتحقق من الأقدار
و لكنني على يقين هذه المرة أن صديقي ها هنا 
و من هنا سيعيد بدر مقايضة الموت بالحياة.
أقول للسماء أن تأتي من توها
ان ترفق به
لانني لا اريد رؤية ما أرى…
ها هنا يضطجع بدر 
و كفى!

٩-
كانت الساعة الثانية عشرة ظهراً
انتصف النهار
لا شيئ غير طنين الذباب
يحلق فوق البقايا 
يمتص رحيق الجثت، 
وحده بدر كان يحرسه رفيف في المكان.
دمه نازف
في الساعة الثانية عشرة ظهراً
في منتصف تموز 
في الساعة الثانية عشرة ظهراً
كان بدر في الغياب.

لماذا أوقفته أسوار المطار
وتركت الآخرين
لماذا أوقفت بدراً 
وانهمر رفاقه في موعد مع الانتصار
لماذا بدر؟
دعوه ينتصر مع الشهداء. 

إنها الساعة الثانية عشرة ظهراً
وحده بدر يرتدي موته
وحده يغني أغاني الرحيل
وحده لا يستحي من عورته
ويختزن الرصاصات بداخله

١٠-
في الساعة الثانية عشر ظهراً.
نَمت أجنحته على غير عادات الحُفاة،
وبدى كأنه يحلق لقْلقاً في السماء.
كان يقول لي 
بقدمين نطلق لساقينا العنان
كان كالريح في الأمكنة
وها هو اليوم بقدمين حافيتين وجناحين
يطير قدماً لموته 
يطير فرحاً لاستشهاده.
هاهو يطير مجدداً
من معركة إلى أخرى
من حلم إلى حلم
منذ آلاف السنين.

١١-
في الساعة الثانية عشرة ظهراً
دوَّت رصاصات الموت
يتلوى ذلك الأسمر الليلكي، الحرِّيف، كثيف الشعر، يابس القامة، 
يرتعش كأنه موجوع.. 
كأنه يهرب من موته
أو يستدرج الموت.. أو لا ادري!
لم يزل يحيا كأن الموت يخطئه
لبدر مع الموت عادات وإني جاهل.

في الساعة الثانية عشرة ظهراً
بشرته المعجونة برمال الجولدمور  باتت شفافة كخيط حرير 
كان ألف فرس يماني يصهل في الساحة
بينما كان النور ينبعث من بدر الكمال
كنت أتشبت بجسده الهارب الى الأبدية.
رأيت في القريب كلاباً تلعق الدم المتخثر
رأيت ما رأيت 
نباحاً… عويلاً… زغاريد… وبشائر نصر 

١٢-
في الساعة الثانية عشرة ظهراً 
فيما الشباب يقتحمون المطار 
وحده بدر كان يعرِّج الى السماء 
ترافقه بجعات ورديات ، 
فحيح في المكان ينبئ بوجود خفي
كأنني أرى حملة دفوف 
ورهط من الملائكة صفوف… أو ما أرى!
يزفون بدراً الى أم الخير 
يزفون بدراً الى منتهاه.
كنت اتبعه 
بحر أمامي، وقامته تسد الشمس
دع عنك روحك يا بدر 
و أسلمني روحي
البحر أصغر منك فما أنت بغريق
البحر في داخلك يا صديقي
و في داخلي الخواء.
ماذا تراني فاعل يا بدر؟
فأنا امتلأت بكل أسباب الرحيل
و لم أعد اتبين الأرجاء
أنا لم أعد شمعتك و لم يعد لي ألق الضياء،
اتركني يا صاحبي..
أفلت يداي
دعني ألملم جيفتي 
استقل القارب الأخير 
للهاربين بلا هدى نحو المغيب.

هامش: 
            غريب هذا الموت الحاضر ما بيننا، أراه في كل منعطف. 
            الموت صار صناعتنا المحلية و بكل فخر بعد أن أضعنا صناعة الحياة و الأمل، 
            فالدجال يبيع و يشتري في الموت باسم الله، 
            و تجار الحروب وجدوا في الموت تجارتهم الرابحة،
            و الفقراء صارت أرزاقهم تدور حول الموت، 
            حتى صرنا نقول إن الموت طريقنا للحياة!. 
            نحن من جعلنا الموت موتاً فلا حقيقة له دوننا و خارج واقعنا.
             للموت عادات تشربناها منذ بدء الخليقة، 
            حتى ليبدوا أننا لن نعبر البرزخ نحو الأبدية من دونه. 
            الموت نحن وقوده و نحن حجارته و نحن مدافنه  و نحن ساكنيه. 
            اليوم تحيط بنا المقابر و نعيش حياتنا بالموت، نحيا به. 
            أين نحن الآن و ما هو غدنا و كيف يكون زماننا بالموت؟
            و لكنني ما زلت آمل أن موت بدر هو إستثناء فهل يموت الموت بعد بدر،
             أم إن الموت سيفاجئنا بتعاريفه الأُخر؟ 


١٣-
انها الثانية عشرة ظهراً.. ساعة القيظ
هنا عند هذه الأسوار أُسجي البدر
كنت هناك ساعة الحشرجة
انا و بدر و الموت ثالثنا، 
كان بدر يبكيني
ما أغرب بكاء الموتى على الأحياء.

سيقولون انه مات في حروب صراوح التي لا تنتهي…
في الساحل الغربي…
في حي الأشراف التعزي…
سيقولون إنهم كانوا رفقته في الحد الجنوبي…
و إنه مات عشرين ميته في الفرضة و بُعِثَ في الجوف…
و إنه كان مع الداخلين الى المكلا أو الشيخ سالم…

أقول لكم ها هنا في كالتكس  قبل بلوغ ليلة القدر 
في هذه التربة المالحة
أسلم بدر بصمته الوراثية
هنا مازالت ملائكته ترفرف في الأرجاء،
و البجعات الورديات يتأهلن للرحيل، 
و لأنني وعدته بعد أن أفصح لي مراراً 
عن أم الخير، تفاحة الاشتهاء الأخير.
قلت: ”لا عليك يا صاحبي:
نصلي ركعتين على هذا السياج المبارك و ندخل الشِعْبَ  نخطب أم الخير 
و نحجُّ اشتاتاً إلى العيدروس ،
                و لك السلام.“

                                    ١٥ يونيو ٢٠٢٠

 

* وزير الخارجية السابق