الرئيسية - تحقيقات - الإدراك والواقع.. رؤية فيزيائية !
الإدراك والواقع.. رؤية فيزيائية !
الساعة 03:00 صباحاً الثورة نت../

يتعلم تلاميذ التخصصات العلمية في المدارس والجامعات الوسائل التكنولوجية التي تمكن الإنسان من دراسة وفهم الطبيعة (الواقع) ويتعلم تلاميذ مادة الفلسفة مفهومي الذات والموضوع ويتعلمون أن الموضوع (الواقع) مستقل عن الذات المدركة (الإنسان) في منظور الفلسفات الموضوعية أي أن للعالم المادي وجود موضوعي مستقل عن هذه الذات المدركةº فلو أغلقنا أعيننا فإن العالم لا يختفي لأننا لا نراه ولكن إدراكنا لهذا العالم هو الذي يختفي وبالتالي فإن الوجود الموضوعي للواقع هو أمر ثابت وإدراكنا لهذا الوجود هو المتغير بحسب اختلاف قدراتنا الإدراكية في حين ترى الفلسفة الذاتية أن الذات هي الأصل بل أن التطور المادي هو سعي نحو الوصول إلى الذات العليا أو الفكرة المطلقة.

 والسؤال اليوم هو: ما الواقع¿ وهل لهذا الواقع وجود موضوعي مستقل عنا¿ وهل نحن إلا جزء من هذا الوجود الموضوعي¿ وتكمن المعضلة في أن أي إجابة لمثل هذه الأسئلة هي إجابة ذاتية بالضرورة أي تعتمد على الذات المجيبة أي الذات المدركة لهذا الواقع (فيزيائيا: التي تقيس هذا الواقع وتقدم تقريرا عنه) فالواقع بالنسبة لها هو ما تدركه هي وليس ما يدركه غيرها وبالتالي: هل تستطيع أي ذات مدركة أن تعطي إجابة نهائية مطلقة عن ماهية هذا الواقع¿  تعتمد الإجابة عن السؤال أعلاه على ثلاثة عناصر رئيسة هي: (1) أدوات الإدراك وهي المخ أو الدماغ والحواس بالإضافة إلى الأدوات والأجهزة العلمية والتكنولوجية التي نستخدمها لسبر أغوار الواقع. (2) صفة الماضي لكل الأحداث المْدرِكة. (3) طبيعة الواقع وحيثياته التي هي ليست مستقلة عن الذات المدركة لأن معرفتنا عن صفات الواقع وحيثياته جاءت عبر الإدراك أي من خلال الذات المدركة. فكيف يتم ذلك¿ دعونا نناقش هذه العناصر!  نبدأ بالأسهل وهي صفة الماضي للأحداث المْدركة: فإن كل ما يصل إلينا من إدراك عبر السمع والبصر وباقي الحواس هو إدراك لأحداث قد حدثت في الماضيº فنحن عندما ننظر إلى ضوء القمر الجميل ننظر إلى أشعة ضوء انعكست عن سطح القمر قبل ثانية وثلث الثانية تقريبا في حين يصل ضوء الشمس إلينا بعد ? دقائق وثلث الدقيقة تقريبا منذ لحظة انبعاثه. فالضوء وهو أسرع ما يمكن أن يصل إلينا يستغرق وقتا حتى يقطع المسافة بين مصدره وحدقات عيوننا أما سرعة الصوت فهي أقل بكثير من سرعة الضوء ولهذا نشاهد ضوء الانفجار قبل أن نسمع صوته وعندما نتكلم معا فإن الصوت يأخذ وقتا حتى يصل من فم المتحدث إلى آذاننا مهما كان هذا الوقت قصيرا (0.003 ثانية – ثلاثة أجزاء من الألف من الثانية لمتحدث يبعد عن المستمع بحوالي متر) حتى حين يْقرأ هذا المقال لا تصل صور كل حرف أو كلمة منه إلى عين القارئ أو القارئة إلا بعد زمن صغير للغاية ولكنه ليس صفرا (0.0000000003 ثانية – حوالي 3 أجزاء من عشرة بلايين من الثانية) وهو الزمن الذي يستغرقه الضوء المنعكس من الورقة أو الشاشة إلى حدقة العين إذا كانت الورقة أو الشاشة على بعد 10 سنتيمترات تقريبا من العين. فضلا عن أن الإدراك لا يحدث في العين أو الأذن أو الأنف أو الفم أو خلايا الإحساس كالجلد فما هذه إلا أدوات أو كواشف تقوم بالكشف عن الضوء أو الصوت أو الشم أو الطعم أو ما يْحس كالبرودة أو الخشونة وقياس كل ذلك وبعد أن تقوم هذه الكواشف بعملها ترسل إشارات لنقل بيانات إلى الدماغ عبر الشبكة العصبية وهذه البيانات تستغرق وقتا في الوصول إلى الدماغ حيث يستغرق وصول إشارة من العين إلى المخ حوالي 0.0001 ثانية – أي جزء من عشرة آلاف من الثانية كما أن الدماغ عندما تصله بيانات من الحواس يستغرق وقتا في تحليلهاº ففي حالة رؤية صورة مثلا يستغرق الدماغ حوالي 0.0013 ثانية في استيعابها (أي 13 جزءاٍ من عشرة آلاف من الثانية) وعندما يتذوق الفم مثلا مذاقا ما يقوم بعملية التحليل للمعلومة بالمقارنة مع ماهو مبرمج أساسا (بيولوجيا) º فالمذاق الحلو مرحب به والمر عكس ذلك. كما يقوم بالتحليل بالمقارنة بما هو مخزون في الذاكرة من معرفه (خبرات سابقة) ليحدد مثلا فيما إذا كان هذا مذاق العسل الدوعني أو الجرداني أو أي نوع آخر سبق تجربته في حالة مذاق أنواع العسل. وعليه فإن عملية الإدراك الناتجة ليست عملية لحظية بل تستغرق وقتا وبالتالي فإن كل إدراك هو إدراك لأحداث حدثت في الماضي وهذا معناه أننا بمجرد أن ندرك الواقع يكون قد تغير خلال الفترة الزمنية التي استغرقناها في عملية الإدراك أو بمعنى آخر نقول: في اللحظة التي نكون قد أدركنا فيها الواقع يكون هذا الواقع قد تغير وبالتالي يكون إدراكنا للواقع الجديد غير موجود فلا وجود لإدراك لحظي للواقع إطلاقا.  نعود الآن إلى أدوات الكشف فنقول: إن حواسنا تتشابه في أغلب قدراتها وتختلف في أمرينº الأول: عندما تكون معطلة مثل حالة الأعمى والأصم والثاني: في كفاءتهاº فلسنا جميعا أقوياء النظر مثلا ولا النظر يبقى كما هو طول العمر وبالتالي قياسنا للواقع لا يتطابق بشكل مطلق من شخص إلى آخر هذا من جهة. ومن جهة أخرى: عندما يحدث خلل ما في الدماغ أو في الأعصاب التي توصل الإشارات إليهº فإن الإدراك يحدث له خلل جوهري ولذلك نجد العالم الذي يعيش فيه المرضى النفسيون عجيبا جدا وقد يختلف جوهرياٍ عن العالم الذي ندركه نحن الأصحاءº فمرضى انفصام الشخصية -مثلا- يحكون لنا واقعا حولهم لا يراه أو يحسه أحدَ إلا هم وبالتالي فإن الواقع المدرك لدى كل ذات مدركة يتشابه في المتوسط ولكنه لا يتطابق كليا بل قد يختلف بشكل جوهري فضلا عن أن حواسنا مهما كانت قوية لها قدرات محدودةº فالبصر صْمم ليكشف عن أطوال موجية بعينها (الضوء المرئي) ولم يْصِمم ليكشف عن الطيف بكل أطواله الموجية مثل الأشعة فوق البنفسجية وتحت الحمراء. والسمع صْمم للكشف عن ترددات بعينها ولا يستطيع الكشف عن كل الترددات في الطبيعةº فلا تستطيع الأذن البشرية –مثلا- أن تسمع ما يسمعه الوطواط وهكذا فإن إدراكنا للواقع من خلال حواسنا محدود بطبيعته. وقد أدرك البشر هذا مبكرين واخترعوا تقنيات (علوم وتكنولوجيا) تسمح لهم سبر أغوار الواقع الذي لا تدركه الحواس وقد حققت البشرية نجاحات هائلة في هذا المضمار ووسعت نطاق قدرتها على الإدراك ليتضمن ما هو صغير جداٍ (العالم الذري وما تحت الذري) وما هو كبير جداٍ (المجرات والتجمعات المجرية والكون ككل). ومع كل هذا التقدم التكنولوجي ما زالت قدرتنا باعتبارنا بشرا محدودة وصحيح أنها تتطور وتتقدم كل يوم ولكن -بكل تأكيد- بيننا وبين أن تصبح أدواتنا وتقنياتنا في الكشف والقياس دقيقة بشكل مطلق قدر لانهائي من الزمنº فكلما زادت قدرة أدواتنا ودقتها كان لابد من زيادة قدرتها ودقتها أكثر وهكذا إلى ما لا نهاية. فعلى سبيل المثال في 19 من فبراير الماضي في معهد ماكس بلانك الألماني أعلن عن أدق قياس حتى اليوم لكتلة الإلكترونº أي أن دقة ما نقيس تتحسن باستمرار. وبالتالي فإن قدراتنا مهما تحسنت ستظل محدودةº نعم تتحسن كل يوم ولكنها لن تصبح مطلقة أبدا إلا بعد مالانهاية من الزمن أو إلى يوم الدين كما كان يقول والدي طيب الله ثراه.   هناك إشكالية إضافية في إمكانية إدراكنا للعالم المادي مستقلة تماماٍ عنا (عن الذات المدركة)º وتتمحور هذه الإشكالية في طبيعة الواقع –إذا صح التعبير- ومدى قدرتنا على إدراك العالم الصغير (الذري والتحت ذري–Micro-Universe ) وذلك لأن العالم الذري وتحت الذري غريب ومختلف عن العالم الكبير (Macro-Universe) الذي نراه بأعيننا أو حتى بالميكروسكوبات الضوئية. ففي عالمنا الكبير نستطيع – مثلا- أن نقيس موضع كرة البلياردو وسرعتها في الوقت نفسه في أي لحظة زمنية ونستطيع أن نجزم أن سيارة ما مزودة بوقود كافُ إذا انطلقت من صنعاء الساعة كذا ستصل عدن في الساعة كذا إذا لم تتعرض لعطل أو حادث طريق. أما في العالم الصغير فلا نستطيع – مثلا- أن نحدد مكان اللإلكترون سلفا وإذا أجرينا القياس ووجدناه في مكان ما في الذرة فنحن لا نستطيع أن نقيس سرعته في الوقت نفسه وبتدخلنا أثناء عملية االقياس نكون قد غيرنا النظام الذي نقيس كما أننا لا نستطيع أن نحدد تماما أين سيكون موضع الإلكترون التالي وذلك لأن الحركة في العالم الصغير عشوائية ولا نستطيع تحديد قيمها إلا في المتوسط فقط. ويحكم العالم الصغير مبدأ يسمى مبدأ اللايقين (Uncertainty Principle)º أي أن العالم الصغير لا يقيني بطبعه وهذا ليس لقصور تكنولوجي في أجهزة القياس أو بسبب محدودية حواسنا. وعليه فإننا لا نستطيع الحصول على معرفة مطلقة عن هذا العالم حتى لو وصلنا إلى أفضل دقة قياس ممكنة إذ إن الوجود الموضوعي للعالم الصغير – إذا كان كذلك – هو وجود عشوائي بطبيعته وليس لخلل في قدراتنا نحن ولهذا لا يمكن لنا أن ندركه بشكل تام بأي حال من الأحوال. كما يجب التنويه هنا إلى أن نظرية الكم (Quantum Theory) وهي أساس الفيزياء الحديثة التي تصف العالم الدقيق – مثلها مثل كل العلوم – هي نتاج العقل البشريº أي نتاج الذات المدركة وتْستخدم من قبل هذه الذات المدركة لمعرفة العالم وقياسهº أي إدراكه للواقع.  دعوني الآن أشير إلى قضية وهي الأصعب تتمثل في المعنى الفيزيائي لـ”اللاشيء” (Nothingness) º ففضلا عن هذا التشابك بين الذات والموضوع فإن المعنى الفيزيائي لـ”اللاشيء” (Nothingness) في الطبيعة يعني ما يلي:  تقول موسوعة ” بريتانيكا” (Encyclopedia Britannica) حول كلمة “لا شيء” ما يلي: “إن كلمة “لاشيء” أو “فراغ” غالباٍ ما تعني الفضاء الذي لا يحتوى على شيء وهو الفضاء غير الشيق. ولكن بالنسبة لفيزياء (الكم) الحديثةº فقد اتضح أن الفراغ غني بنشاط معقد وغير متوقع فالفيزيائيون يعتقدون أن الفراغ هو الحالة الدنيا للطاقة في الطبيعة وتحدث فيه تأرجحات ميكانيكية كمية تتوافق مع المبدأ الفيزيائي الميكانيكي الكمي المسمى “اللايقين” الذي أتى به العالم الألماني الشهير ورنر هيسنبرج (Warner Heisenberg) وهذا التأرجح يمكن أن يؤدي لحظياٍ ومؤقتاٍ إلى تكوين أزواج من المادة وأضدادها” – الترجمة مع بعض التصرف من عندي. وعليه واستناداٍ إلى ميكانيكا الكم ما هو مفهوم (اللاشيء) في العالم الصغير¿ دعونا نفكر فيما يلي: 1- في العالم الكبير الذي نعيش فيه عندما نقول: إن غرفةٍ ما فارغةٍ فنحن نعني أنها لا تحتوي على شيء على الإطلاق (فراغ مطلق). هذا بالرغم من أننا نعرف أن الهواء الذي في الغرفة موجود ومادي ويتكون من نيتروجين وأوكسجين وبخار ماء. وفي الغرفة توجد ربما كائنات حية مثل البكتيريا أو حبيبات صغيرة من الغبار أو غيره مما لا تراه العين المجردة. أي أن عقليتنا تعتمد على عيوننا في تحديد ماهية الفراغ المطلق فما لا نراه نعتبره غير موجود. 2- الحقيقة أن الغرفة تحتوي أيضاٍ على حديقة حيوان كاملة – إذا صح التعبير- من الجسيمات الدقيقة التي لا تْرى حتى بالميكروسكوبات وكذلك نطاق واسع من طيف الأشعة الكهرمغناطيسية بكميات ضئيلة لاتؤذي الإنسان وهكذا لا يمكن بأي حال من الأحوال وصف الغرفة بأنها فارغة لمجرد عدم وجود أشياء ترى بالعين المجردة. 3- بكل تأكيد: لدى الإنسان تكنولوجيا تسمح له بتفريغ الغرفة أعلاه من الهواء وحبيبات الغبار والبكتيريا وخلافها عن طريق استخدام مضخات تفريغ أو مخلخلات للهواء فهل لو قمنا بذلك تصبح الغرفة فارغة بشكل مطلق¿ الإجابة: لا. لماذا¿ • السبب الأول: يأتي من المفهوم الميكانيكي الكمي للذرةº فالذرة ليست كما يعْتقد خطأٍ بأنها كروية أو بيضاوية الشكلº فلا شكل مطلق لها بل إن حدود كل ذرة تمتد ما بين الصفر والـ(ما لا نهاية). صحيح إن الذرة من الناحية العملية متموضعة (Localized)º أي أن أغلبها موجود في نطاق ضيق وصغير جداٍ قد يكون شبه كروي له متوسط نصف قطر لكن لها امتدادا (ولو غير مرئي) إلى ما لانهاية. وبالتالي لا يوجد معنى – بشكل مطلق- لتفريغ الغرفة من الذراتº فلو أخرجنا من الغرفة أغلب الذرات (لا نستطيع أن نخرجها كلها أبداٍ) فسيظل امتدادها موجوداٍ ليس في هذه الغرفة فقط بل في كل الغرف بل وفي كل مكان من الكون. قد يبدو هذا غير قابل للتصديق من قبل غير المختصين ولكنه هو الحقيقة الفيزيائية شئنا أم أبينا وما ينطبق على الذرة ينطبق على النواة والبروتون والنيوترون وكافة الجسيمات الميكانيكية الكمية أي أنه “لا يمكن لأي نقطة في الكون أن تكون فارعة بشكل مطلق”! • السبب الثاني: هو في النظرة الميكانيكية الكمية للفراغ عند مسافات شديدة الصغر أو فترات زمنية متناهية في الصغرº ولأجل توضيح هذا الموضوع لابد أن نعود لمبدأ (اللايقين) لهيسنبرج: “لا نستطيع قياس موضع وكمية حركة جسيم في آن واحد وبالمثل لا نستطيع قياس زمن وطاقة جسيم في آن واحد” فإذا قسنا الزمن مثلاٍ بشكل يقيني (الخطأ صغير جدا) أصبحنا غير متيقنين من الطاقة (الخطأ كبير جدا) وإذا قسنا الطاقة بشكل يقيني (الخطأ صغير جداٍ) أصبحنا غير متيقنين من الزمن (الخطأ كبير جدا) وهذا (اللايقين) ليس بسبب قصور أجهزتنا أو عقولنا بل هو حقيقة بنيوية في نظرية الكم ومستقلة عنا وعن التكنولوجيا التي نملك. أي: أن هذا المبدأ جزء من البناء الرياضي لميكانيكا الكم. إن مبدأ اللايقين يسمح للفراغ أن يحتوي على ديمومة من العمليات الجسيمية التي فيها تْخلق وتضمحل أزواج من الجسيمات وأضدادها ويتم ذلك في أزمنة شديدة الصغر لا نستطيع – في الوقت الراهن- قياسها. وبالتالي يكون الفراغ الميكانيكي الكمي عبارة عن توازن ما بين أزواج جسيمية وأضدادها مْنتجة ومضمحلةº بحيث يصبح المتوسط هو(اللاشيء) أو القيمة المتوقعة للفراغ تساوي صفرا أي أن (اللاشيء) ليس إلا تعبيراٍ رياضياٍ عن توازن المادة مع ضدها أو أن اللاشيء هو توازن الشيء مع ضده إذا صح التعبير أو الحالة الدنيا للطبيعة. ولتقريب الأمر: دعونا نشبه المادة بالعواطفº فإذا قلنا: أن المادة هي عاطفة “الحب” فضد المادة سيكون عاطفة “الكره” فإذا التقى الحب مع الكره بكميات متكافئة وفي زمن قصير جداٍ بحسب ميكانيكا كم العواطف -إذا صح التعبير- حدث تعادل عاطفي ووصلنا إلى وضعية اللاحب واللاكره. ولنا أن نسمي هذا الوضع بـ(الفراغ العاطفي) أو (اللاشيء العاطفي). هكذا هو الفراغ الميكانيكي الكمي للمادة: توازن بين المادة وضدها. (لاشك أن الموضوع غريب لغير المختصين ولكنني حاولت التبسيط ما استطعت ولعل الفكرة وصلت). إذا: نحن لا نستطيع أن نجزم أمرنا بشأن العدمº فهو توازن بين الشيء وضده أو الحالة الدنيا للطبيعة في أفضل الأحوال هذا ما يتعلق بالمادة أو الطاقة.فإذا انتقلنا إلى نظرية الكم في تطبيقها على الكون ككل في إطار النظرية النسبية العامة لأينشتين أو ما يسمى بالجاذبية الكمية (Quantum Gravity) º فإننا نستطيع أن نقول: إن الفراغ نفسه هو توازن بين وجوده هو وعدم وجوده هو حتى لولم يحتو على مادة أو طاقة بل يصل الأمر إلى أبعد من ذلك في نظرية الأكوان المتوازية (Parallel Universes) في أن هذا الكون ليس بالضرورة هو الحقيقة المطلقة بل من الممكن ان تكون هناك أكوان أخرى مختلفة حتى في فيزيائها …الخ ولا أريد هنا أن أخوض بشكل أوسع في هذه النظريات بل أن أشير أليها فقط (مع التنبيه إلى أن نظريات الكم الجاذبية وكذلك نظرية الأكوان المتوازية لم تثبت بعد). وعليه نستطيع القول بأن فيزياء العالم الكبير تتعامل مع الطبيعة باعتبار أن وجودها موضوعي مستقل عن الذات التي تقيس هذه الطبيعة (تدركها).ومع هذا لا يكون إدراكنا (قياسنا) للعالم الكبير مطلقا أبدا وبالتالي يتشابك مفهوما الذات والموضوع إلى حد ما ولكن الكفة تميل لمصلحة الرؤية الموضوعية للطبيعة إذ لا نستطيع أن ننكر حقائق العالم الكبير – فمثلا – عندما يموت أحدنا ويوارى الثرى يختفي كلية من بين الناس ولا يعود قابلا للإدراك الحسي فيصبح موته حقيقة موضوعية مستقلة عن قبولنا بها من عدمه. أما في العالم الصغير فالأمر أكثر تشابكاº فعملية القياس نفسها تغير في النظام المقاس (الواقع) فضلا عن أن هذا العالم الصغير هو لا يقيني بطبعه وهنا يصبح الأمر مفتوحا للجدل الفلسفي أكثر.  في المحصلة نستطيع القول: إن الواقع موجود موضوعيا بشكل مستقل عن إدراكنا في حضوره الكبير أو وجوده العام إذا كان الواقع شيئا محسوسا كبيرا مثل طاولة أو كتاب (أو مثال الموت كما ورد أعلاه) لأن وجوده الموضوعي يؤكده الإدراك الجمعي المتوسط للناس حول هذه الطاولة أو الكتاب حتى لو كان بين هؤلاء الناس من لا يرى أو يحس بالطاولة أو الكتاب. وفي هذه الحالة يكون وجود الواقع هو محصلة الإدراك الجمعي للناس. أما في حالة العالم الصغير فإنه واقع لا يدركه إلا القادرون على إدراكه تكنولوجيٍاº وفي هذه الحالة يكون إدراكهم غير دقيق مهما كانت دقة أجهزتهم وأدواتها ويكون إدراكهم لايقيني بسبب الطبيعة اللايقينية لهذا العالم العشوائي فضلا عن أن إدراكهم يكون لواقع قد مضى وحل محله واقع جديد في كل لحظة. إن العلاقة بين الإدراك والواقع متشابكة أيما تشابك ولا يملك أي إنسان إجابة مطلقة عن ماهية الواقع وإن الفلسفة التي تسعى للحصول على أجوبة مطلقة لأسئلة محيرة لا إجابة لها ستظل تبحث عنها إلى يوم الدين ولهذا ستظل الفلسفة مجالا حيا جدليا لا يمكن أن يصل إلى قرار وستظل الفيزياء غير معنية بمثل هذه الأسئلة المطلقة أي غير معنية بالمطلق فمجال عملها هو النسبي الذي إذا سعى نحو المطلق لا يدركه أبدا ولكنه في الطريق ينفع الناس.

• أستاذ الفيزياء النووية وميكانيكا الكم صنعاء 1-6-2014 [email protected]