الرئيسية - تحقيقات - فقه الزمن!
فقه الزمن!
الساعة 03:00 صباحاً الثورة نت../

يقول جبران خليل جبران أن البارحة ذكرى اليوم والغد حلمه. وللكاتب الانجليزي الشهير وليم شكسبير في واحدة من أجمل مسرحياته (ماكبث) كلامَ فريدَ عن الزمن يقول فيه على لسان أحد شخوص المسرحية (بانكيو): “لو كانت لديك القدرة على النظر في بذور الزمن ومعرفة أي منها سينمو وأي منها لا ينمو فتحدث إلي حينها” وكأن الزمن له بذور بعضها ينمو والبعض الآخر لا يفعل. والمرجح أنه يقصد أن بذرة زمن شخصُ ما قد تنمو فيكون لهذا الشخص شأن كبير في حياة الناس أو قد لا تنمو فكأن الشخص لم يكن أو أن بذرة زمن فكرةُ ما قد تنمو فتشغل هذه الفكرة خلق الله سلباٍ أو إيجاباٍ أو وقد لا تنمو فكأنها لم تكن. ومع هذا فإن سؤاله هذا شديد العمق جدير بالتأمل يصلح أن يكون مدخلاٍ جميلاٍ لهذه الكتابة أو بالأحرى لهذه الرياضة العقلية الممتعة (للكاتب على الأقل) في محاولة ليس للإجابة – فذلك شبه مستحيل- ولكن في محاولة جديدة لمجرد مناقشة السؤال الأبدي: ما هو الزمن¿

تتفق قواميس اللغة العربية على معنى الزمن بأنه بعض الوقت أو كله. وتختلف في معنى الزمان فبعضها يساويه بالزمن مرادفاٍ وبعضها يحصر معناه بجزء من الوقت فقط ولغرض هذه الكتابة سيْستخدم اللفظان بنفس المعنى. والزمن عند الإنسان له مفهومان الأول يبدو لنا واقعيا ويبدو لنا منتظماٍ يتحرك مثل السهم في اتجاهُ واحدُ من الماضي إلى المستقبل مروراٍ بالحاضر تقيسه الساعة بثوانيها ودقائقها وساعاتها ويسجله التاريخ بالأيام والشهور والسنوات وتقع فيه الأحداث أو تحدث فيه الوقائع وتْسجل فيه باعتباره مستقل الوجود وباعتباره خلفية لحركة الإنسان والطبيعة معاٍ (صفات الزمن هذه ليست صحيحة بالضرورة أو ليست صحيحة دائماٍ وهي محل نقاش في هذه الكتابة). والثاني معنوي يرتبط بالإنسان الذي لا يجد كفايته منه ويتمنى لو أن الزمن يمتد به أمداٍ طويلاٍ ومرتبط بالمشاعر الإنسانية وحالاتها المختلفة وهو ليس منتظماٍ ولا مستقيماٍ بالضرورة. فنجده يقف تماماٍ في لحظات الدهشة المفرطة أو الصدمات التي توصف بأنها توقف الدم في العروق. ونجده في لحظات المحبة الصافية يمشي بخطى سريعة يتمنى المحبون لو أنها تبطئ. وقد يتوقف الزمن كلية عند الإنسان في لحظة حبُ صادقةُ خالصةُ قد يعيشها خارج الزمان والمكان معاٍ نعم لحظات يتوقف عندها الزمن أو يكاد وقد يكون الزمن بطيئاٍ ثقيلاٍ على القلب في لحظات الخوف أو الانتظار المصحوب بالقلق (مازال كاتب هذه السطور يتذكر كيف كان الزمن مؤلماٍ وثقيلاٍ عندما كان في زنزانةُ انفراديةُ معتقلاٍ سياسياٍ وهو تلميذَ في أوائل الثمانينات) أي أن الزمن الإنساني يسرع ويبطئ ويكون حزيناٍ أو مفرحاٍ أو مدهشاٍ أو مغرقاٍ في الظلام أو حتى غداراٍ ولو أردنا الاستطراد في هذا الإحساس والرؤية الإنسانية للزمن لملئنا من الصفحات كتاباٍ ويكفي هنا استحضار قول المتنبي: “أريد من زمني ذا أن يبلغني ** ما ليس يبلغه في نفسه الزمن” أو قول تولستوي بأن “الزمن والصبر هما أقوى المحاربين” أو قول محمود درويش بأن ” الأحبة هاجرو أخذوا المكان وهاجروا أخذوا الزمان وهاجرو” وهذا المفهوم الثاني سنسميه “الزمن الإنساني” في مقابل المفهوم الأول والذي يمكن أن نسميه “الزمن الطبيعي” والزمن الطبيعي هو موضوع الحديث في هذه الكتابة التي سيتركز النقاش فيها على خلفية من المعرفة الفيزيائية الكلاسيكية والحديثة معاٍ وذلك لأن الفيزياء هي الفرع المعرفي الوحيد المعني بالزمن دراسةٍ وفقهاٍ. يقول الراهب الأمازيغي الأصل أوغسطينوس (ولد في عنابة على الساحل الجزائري) في اعترافاته الشهيرة التي كتبت بين عامي 397م و400م ما معناه أن الزمن يتكون من ماضُ وحاضرُ ومستقبلُ وبما أن الماضي لم يعد موجوداٍ والمستقبل لم يأت بعد والحاضر لحظة لا تستغرق وقتاٍ فأين الزمن إذا¿ وهل هو موجودَ فعلاٍ¿ وهذا كلامَ فلسفيَ بامتيازُ فقد كان الزمن وما زال معضلة الفلاسفة ونجواهم. ولكننا هنا سنبتعد عنهم بعض الشيء ونركز على الفيزياء وسنعود إليهم قليلاٍ في النهاية. سيأتي نقاشنا لماهية الزمن إلى ردهةُ واسعةُ من التساؤلات فندخل أبوابها تباعاٍ وتقود هذه الأبواب إلى بعضها بشكل متداخل يعكس تداخل الموضوع وسيكون ذلك في محاولة للإجابة عليها لعل النقاش يستضيء بما يجد من أفكار قد تقود إلى الباب الرئيس أو السؤال الرئيس: ما هو الزمن¿ وبكل تأكيد لا نملك أن نجيب عليه وكما عنى شكسبير: من كان منكم يملك الإجابة فليتحدث إلي! ولكن إذا ما حالفنا قِدúر من الإدراك قد نتمكن من التعرف – على الأقل – على ملامح السؤال أو شيء من الإجابة وأهم هذه الأسئلة هي: 1- ما علاقة الزمان بالمكان¿ وهل الزمن “خطي”¿ أي هل يسير في خطُ مستقيمُ¿ وهل هو منتظمَ¿ وهل التقسيمات على هذا الخط متساويةَ مثلما هي التقسيمات السنتيمترية على مسطرة التلميذ مثلاٍ¿ بمعنى هل سرعة الساعة التي تقيس الزمن ثابتةَ لكل راصدُ مهما كانت حالة هذا الراصد من حيث الحركة أو السكون¿ 2- هل يتأثر الزمن بالأحداث أو بالأجسام المتحركة في المكان أم أنه مستقلَ عنها¿ وما هو تأثير الكتلة والطاقة على الزمن¿ وهل يمكن للزمن أن يتوقف في مكانُ ما ويظل سائراٍ في مكانُ آخر¿ 3- هل للزمن بدايةَ وهل له نهايةَ¿ وهل هناك زمانَ أو تأريخَ واحدَ للأحداث أم أزمنةَ وتواريخْ عديدةَ ممكنةَ¿ وهل هناك زمنَ حقيقيَ وزمنَ تخيليَ¿ وما هو مصير الزمن نفسه¿

بادئ ذي بدء وقبل الولوج إلى الفيزياء لابد من ذكر الزمن البيلوجي أو الساعة البيلوجية للكائن الحي وهي ساعةَ مستقلةَ عن دوران الأرض أو الليل والنهار أو أي شيء آخر خارج جسم الكائن الحي كما ثبت مؤخراٍ فالجسم الحي إذا حْجز في مكان مغلق بدون توقيت أو ساعات وبدون ضوئي الشمس والقمر أو أي إشارة أخرى للوقت ومارس حياته بحسب الحاجة (أي ينام عندما يحس بالنوم ويأكل عندما يحس بالجوع ويقضي حاجته عندما يحس بها هكذا) يصنع لنفسه نمطاٍ زمنياٍ منتظماٍ أو ساعة داخلية تصبح فيها هذه الأنشطة منتظمةٍ دون أن يعلم الدماغ بذلك أي أن للجسم ساعةٍ بيلوجيةٍ داخليةٍ مستقلةٍ عن ساعتنا البشرية المعنوية تضبط نشاطه البيولوجي بانتظام فهذا الانتظام يحافظ على وجوده. والحقيقة أن هذه الظاهرة تمثل الانتظام البيلوجي للمحافظة على النوع وبالتالي هي ليست ساعة زمنية بالمعنى الفيزيائي للكلمة ولا تعنينا في هذه الكتابة ولكن وجب التنوية إليها بغرض الاكتمال. يستعين العقل في رياضته هذه حول مفهوم الزمن بأطروحات ستيفن هوكنج الفيزيائية وله كتابان مهمان في هذا الشأن هما “تاريخ موجز للزمن” الذي نشر في العام 1988م و”الكون في قشرة جوز” الذي نشر في العام 2001م والأخير بكل تأكيدُ هو الأهم وهنا لا بد من توجيه التحية للترجمة العربية لهذا الكتاب الصادرة عن سلسة المعرفة في العام 2003 وللمترجم الدكتور مصطفى إبراهيم فهمي ومع هذا لابد من الإشارة هنا إلى أن كاتب هذه السطور سيختلف مع هوكنج بعض الشيء وعلى وجه التحديد عند الحديث عن اللانهائيات وسأشير إلى ذلك في حينه وعليه فإن ما سيأتي لا يحسب على فكر هاوكينج الفيزيائي بل يشكل رياضةٍ فكريةٍ ذاتيةٍ لكاتب هذه السطور قائمةٍ على معرفته بالفيزياء والفلسفة معاٍ في محاولةُ جديدةُ للإجابة على السؤال السرمدي: ما هو الزمن¿ وإذا كانت القارئة الكريمة قد شاهدت أو كان القارئ الكريم قد شاهد السلسلة التلفزيونية الرائعة عن الـ (BBC) للفيزيائي النظري الجميل ميتشيو كاكو التي تحاول الإجابة على نفس السؤال فهذه الكتابة يجب أن تكون أعمق وأشمل وأحدث ولكن ربما أوجز وأكثر تركيزاٍ فيزيائياٍ على الموضوع (عادةٍ تكون البرامج التلفزيونية أقل تركيزاٍ على الفيزياء والرياضيات حتى تجذب المشاهد العادي). كما ذْكر سلفاٍ الفيزياء هي الفرع المعرفي الوحيد المعني بدراسة الزمن والفيزياء مثلها مثل بقية العلوم ما هي إلا نموذجاٍ عن الطبيعة حتى الرياضيات بالرغم من أنها ليست نموذجاٍ عن الطبيعة إلا أنها ذات أهمية قصوى في دراسة الإنسان للطبيعة والفيزياء أولاٍ وآخر هي نموذجَ رياضيَ عن هذه الطبيعة ونموذجَ رياضيَ عن الزمان والمكان وللفيزياء فروعَ متعددةَ ولكن يمكن تقسيم كل هذه الفروع إلى قسمين أحدهما نسميه الفيزياء الكلاسيكية وتْعنى بما نسميه العالم الكبير (Macro Universe) والثاني نسميه الفيزياء الحديثة وتْعنى بما نسميه العالم الصغير (Micro Universe) والعالم الصغير هو العالم الذري وما تحت الذري وهو عالم المسافات المتناهية في الصغر أي في حدود النانو متر(جزء من البليون من المتر) ويكفي القارئ العام هذا التعريف التقريبي للعالم الصغير وبالتالي لا حاجة له بقراءة ما سيلي بين قوسين مزدوجين من تعريفُ أدقِ أورده فقط لدارسي العلوم بغية الفائدة ((فإذا أراد تعريفاٍ أوسعِ قليلاٍ فإن العالم الصغير يبدأ من الجزيء فما هو أصغر حيث أن متوسط نصف قطر أكبر جزيء هو حوالي 100 نانو متر وأصغر جزيء حوالي عْشر النانو متر مروراٍ بالذرة ومتوسط قطرها جزءَ من عشرة من البليون من المتر )0.0000000001( ثم النواة ومتوسط قطرها جزءَ من مئة ألف بليون من المتر )0.00000000000001( ثم البروتون والنيوترون المكونان للنواة أو الهادرونات بصفةُ عامةُ ومتوسط قطر النيوترون مثلاٍ هو جزءَ من المليون بليون من المتر )0.000000000000001( وانتهاءٍ بالكواوركات ومتوسط قطرها أصغر من جزءُ من العشرة من البليون بليون من المتر )0.0000000000000000001( واللبتونات مثل الإلكترون ومتوسط قطره أصغر من جزءُ من البليون بليون من المتر )0.000000000000000001( إذ أن الكواركات واللبتونات هي المكونات الأساسية الأصغر للمادة التي لا مكون أو تركيب لها)). أما العالم الكبير فنعرفه بأنه كل ما هو أكبر من ذلك ابتداء مثلا من الخلية الحيوانية والخلية النباتية والبكتيريا والفيروسات مروراٍ بالإنسان والحيوان والشجر والحجر ثم الكرة الأرضية ومجموعتها الشمسية ثم المجرة فالتجمعات المجرية الصغرى والكبرى ثم الكون ككل الكون هنا هو الكون المرئي أي حدود ما نستطيع رؤيته بكل ما أوتينا من تكنولوجيا ونصف قطر الكون المرئي (أي أبعد ما نستطيع رؤيته أو قياسه في هذه اللحظة من تقدمنا التكنولوجي) هو مئة مليون بليون بليون متر )100000000000000000000000000). وضع إسحاق نيوتن لنا أول نموذجُ رياضيُ للزمان (الحقيقة أنه نموذجاٍ للزمان والمكان) وذلك في كتابه “المبادئ الرياضية” الذي نْشر في العام 1687 وفي هذا النموذج يشكل الزمان والمكان كلَ على حدة خلفيةٍ تقع فيها الأحداث أو تحدث فيها الوقائع فالزمان منفصلَ عن المكان وله مسارَ أو خطَ واحدَ يتجه دائماٍ نحو المستقبل وهو سرمدي الوجود. وتقوم فيزياء نيوتن على مفهوم الإزاحة في المكان وهي قيمةَ واتجاهَ في نفس الوقت (نسميه بلغة الرياضيات والفيزياء “متجه”) والسرعة في فيزياء نيوتن هي معدل تغير هذه الإزاحة بالنسبة للزمن والعجلة هي معدل تغير السرعة بالنسبة للزمن وهكذا تْنسب الحركة إلى الزمن أي أن تطور الأحداث يتم في الزمن الذي يمثل خلفيةٍ مستقلةٍ عن هذه الإحداث والحركة هنا قابلةَ للتحديد والدراسة والتنبؤ فالأحداث لها أحد احتمالين لا ثالث لهما وهما أن يقع الحدث (احتمال مائة بالمائة) وأن لا يقع الحدث (احتمال صفر بالمائة) وفيزياء نيوتن تصنف بأنها فيزياء كلاسيكية تنطبق فقط على العالم الكبير وحركته كما أنها كلاسيكية لأنها تنطبق فقط عندما تكون السرعات في هذا العالم الكبير صغيرةٍ (أصغر بكثير من سرعة الضوء في الفراغ وسنأتي لهذه لاحقاٍ). في العام 1915م وضع إينشتين نموذجاٍ رياضياٍ مختلفاٍ عن نموذج نيوتن سمي بالنظرية النسبية العامة التي أنهت الفصل بين الزمان والمكان وجعلتهما معاٍ في وحدةُ واحدةُ يمكن أن نسميها “الزمكان” (Space-Time) فالحركة تتم في الزمكان وليس المكان فقط وتتطور الحركة في الزمكان وليس الزمان فقط وهذا الزمكان يغير مفاهيمنا حول الزمن والأحداث فمثلاٍ يقول إينشتين: “بما أن مفهوم “الآن” لم يعد له وجودَ في أي قسمٍ من الزمكان فإن مفاهيم “حدث” و “أصبح” لم يموتا ولكنهما أضحيا معقدان” وفي النسبية العامة يكون وجود المادة أو الطاقة أو الاثنين معاٍ مكافئاٍ لحدوث انحناءُ في الزمكان وبالتالي لا يعود الزمان ولا المكان مستقيمان (المكان بأبعاده الثلاثة – الطول والعرض والارتفاع) فتكون مسارات حركة الأجسام في الزمكان غير مستقيمةُ أو منحنيةُ في وجود المادة أو الطاقة ولتوضيح هذه الفكرة نشبه الزمكان في غياب المادة أو الكتلة ببساطُ مفروشُ أو مسطحُ في الهواء (مشدوداٍ من أركانه) ويسبب وجود المادة أو الكتلة انحناءٍ في هذا البساط مثلما تسبب أي كرةُ ثقيلةُ من انحناءُ إذا وضعناها في وسط البساط (تحدث هبوطاٍ فيه) وكلما كانت أثقل كلما زاد الانحناء (الهبوط) فإذا دحرجنا جسماٍ آخرِ صغيراٍ في البساط فإن مساره سينحني عند منطقة تأثير الكرة الثقيلة لأن البساط نفسه صار منحنياٍ فلو افترضنا أن ثقل الكرة التي وضعناها متناهي في الكبر فلا بد أن سطح البساط لن ينحني فحسب بل سيْثقب تحت تأثير الثقل الهائل (الهبوط يتحول إلى ثقب) وهذا الثقب يسمى في الفيزياء “الثقب الأسود” وكل ما سيقترب من هذا الثقب سيْبتلع ويضيع ويترتب على ذلك أن الجاذبية تبطئ حركة الزمان إلى درجة أنه يقف تماماٍ عند حدود الثقب الأسود أي تحت تأثير جذب لانهائي (الانحناء في الزمكان هو انحناءَ في الزمان وهو يمثل بطء فيه وعند حدوث الثقب يكون البطء أقصى ما يمكن أي يقف الزمان) وبالتالي لا يكون الزمكان مجرد خلفيةُ تقع فيها الأحداث أو تحدث فيها الوقائع بل يصبح الزمكان مساهماٍ نشطاٍ ديناميكياٍ فيما تحدث من وقائعِ أو يقع من أحداثُ أي يتأثر الزمكان بها ويؤثر عليها (ينحني ثم يسبب انحنائه انحناء مسارات الحركة). كما أن تطور الأحداث في النسبية العامة لا يتم في الزمان فقط بل في الزمكان ككل بمعنى أن السرعة لم تعد تمثل معدل تغير الإزاحة بالنسبة للزمان بل معدل تغير الإزاحة بالنسبة للزمكان ككل أي لم يعد للزمان خصوصيةَ أنه مرجع تطور الأحداث وهكذا ومع هذا مازال الزمان يسير في اتجاهُ واحدُ نحو المستقبل عندما تغيب المادة أو الطاقة أو الاثنين معاٍ (أي عندما يكون بساط الزمكان مستوياٍ لأنه عندما ينحني تتتغير استقامة الزمان وبالتالي ينحني اتجاهه نحو المستقبل حتى أنه يقف عند حدود الثقوب السوداء) أي أن مفهومي الزمان بين نيوتن وأينشتين يختلفان في كل شيء ما عدا اتجاه الزمن نحو المستقبل في حالة عدم وجود مادة أو طاقة ولم يؤمن إينشتين بأن الزمكان له بدايةْ أو نهايةَ وهذا رأي الغالبية العظمى من الفيزيائيين فلو كانت له بداية أو نهاية ستنشأ حين إذ أسئلةَ محيرةَ عن ما قبل وما بعد فقد كان إينشتين مثله مثل الغالبية العظمى من الفيزيائيين يميل إلى الفلسفة الوضعية التي ترى أن الفكر الإنساني معني فقط بالظواهر التي يستطيع أن يدركها الإنسان بإحساسه أو قدراته التكنولوجية وما بين هذه الظواهر من علاقاتُ وقوانينِ والتأكيد يأتي من التجربة أو من العلم التجريبي وعليه لا معنى ولا مجال للبحث عن علل الأشياء وطبائعها الغائبة ولإينشتين نظريةَ قرينةَ للنسبية العامة هي نظريته المسماة بالنظرية النسبية الخاصة وهي زمكانية مثل قرينتها وتنص على أن سرعة الضوء في الفراغ مقدارَ ثابتَ (يساوي تماماٍ 299792458 متر في الثانية أي حوالي ثلاثمائة مليون متر في الثانية) وتكافئ النسبية الخاصة بين المادة والطاقة فهما صنوان يتحول كل منهما إلى الآخر بكفاءةُ مطلقةُ بشرط أن تكون سرعة الحركة قريبةٍ من أو تساوي سرعة الضوء أي أن إينشتين أنهى الفصل بين المادة والطاقة مثلما أنهى الفصل بين الزمان والمكان ويتبع ثباتية سرعة الضوء خاصيةَ للزمن تجعله يتمدد أو يتقلص تبعاٍ لسرعة الراصد للأحداث ولتوضيح هذه الخاصية دعونا نفترض أن أحدكم على متن قطارُ يسير بسرعةُ تقترب كثيراٍ من سرعة الضوء فينظر في ساعته بين الحين والآخر فيجدها بالنسبة له تجري بشكلُ طبيعيُ ولكن بالنسبة لشخص آخر يجلس في مقهى على الشارع الذي يمر فيه القطار (لو افترضنا أن هذا الشخص الآخر يستطيع استراق النظر فيقرأ ساعة الراكب) فإن ساعة الراكب بطيئةَ جداٍ بالمقارنة مع ساعته هو أي أن الثانية في الساعة التي في القطار بالنسبة لراكب القطار عاديةَ وبالنسبة للمشاهد الجالس في المقهى طويلةَ جداٍ بالمقارنة مع الثانية في ساعته إذا: كلما زادت السرعة كلما بطئت دقات الساعة وهذا يعني أن الزمن ليس ثابتاٍ أو منتظماٍ بشكلُ مطلقُ فهو يعتمد على حركة الراصد نسبةٍ إلى حركة المرصود فإذا كانا يتحركان معاٍ كان الزمن واحداٍ ومنتظماٍ (أي أن ساعتيهما متطابقتان في قياس الزمن) وإذا كان أحدهما متحركاٍ والآخر ثابتاٍ اختلفت ساعتيهما في قياسهما للزمن فواحدةَ تكون أبطأ من الأخرى أو العكس.   ولكن النظرية النسبية العامة تنهار عند نقطةُ نسميها في الفيزياء والرياضيات بالنقطة الـ”مفردة” (Singularity) وما أدراك ما المفردة علمها عند الله وحتى نجعلها قريبة إلى الفهم سنقول عنها فقط بأنها النقطة في الزمكان التي تكون عندها كثافة المادة أو طاقتها ما لانهاية وهي ذاتها النقطة التي يحدث عندها ما أشرنا إليه سابقاٍ وسميناه الثقوب السوداء التي يقف عندها الزمن وبالمناسبة: الثقوب السوداء أضحت حقيقةٍ فيزيائيةٍ تم الكشف عنها وهي موجودةَ في مناطقِ مختلفةُ من الكون. والمفردة أيضاٍ نقطة البداية الزمكانية في نظرية الكوزمولوجيا الشهيرة المسماة بالانفجار الأعظم (Big Bang Theory) والمشكلة أننا لا نعرف شيئاٍ عن هذه النقاط المفردة سوى أنها المقابل الفيزيائي للرقم ما لانهاية في الرياضيات فهل المفردات هذه هي البدايات والنهايات¿ الله أعلم¿ ومع هذا سنحاول أن نناقش أمر البدايات والنهايات بعض الشيء لاحقاٍ. ربما أن سبب انهيار النظرية النسبية العامة لأينشتين عند حدود الـ”مفردات” هو أنها لا تتضمن ميكانيكا الكم وعلى وجه الخصوص مبدأ الـ “لايقين” لهيسنبرج (Heisenberg) الذي سنأتي عليه لاحقاٍ وهذا المبدأ على وجه التحديد هو انعكاس لعشوائية الأحداث فلو اعتمدنا مبدأ العشوائية لفهم بداية الكون فلن يكون للكون تاريخَ وحيدَ كما نظن بل تواريخ متعددةَ لكل منها احتماليتها العشوائية وسنعود إلى هذا لاحقاٍ. قبل الدخول في فيزياء العالم الصغير وعلى وجه التحديد فيزياء الكم لابد أن نعرج على قضيةُ مهمةُ في فهم الكون وتمدده المتسارع كما قد ثبت لنا وعلى وجه الخصوص سرعة تمدد الكون عند بداياته إذ يستغرب الناس كيف أننا اليوم نلتقط إشاراتُ كهرومغناطيسيةُ صدرت عند بدايات الكون وتصلنا الآن أي كيف لنا أن نسبقها فتصل إلينا الآن في حين صدرت هي ليس فقط قبل وجودنا كبشر بل عند نشأة الكون قبل مليارات السنين¿ والإجابة هي: إذا كانت الموجات الكهرومغناطيسية تتحرك بسرعة أقصاها سرعة الضوء فلا بد أن تمدد الكون آنذاك كان أسرع من الضوء (الكون تمدد فسبق الضوء لأن الضوء وصلنا الآن بعد أن صرنا هنا) وهذا صحيحَ فعلاٍ وهذا أيضاٍ لا يتعارض مع قولنا الفيزيائي بأن سرعة الضوء هي أقصى سرعةُ لجسم فيزيائي (وإلا انهارت النسبية الخاصة وانهارت معها الفيزياء المعاصرة) وذلك لأن الكون أو الزمكان بالرغم من أنه محل دراسةُ من قبل الفيزياء إلا أنه ليس جسماٍ فيزيائياٍ بالمعنى الميكانيكي للكلمة وبالتالي من حقه أن يسرع بالسرعة التي يشاء إذا جاز التعبيرأي أن الميكانيكا سواءَ النسبية أو الكلاسيكية التي تْعرف السرعة والعجلة وكمية الحركة والطاقة والقوة إلى آخره تتحدث عن أجسامُ تتحرك في المكان أو الزمكان سواءَ كانت لها كتلةَ أم لم تكن في حين أن الزمكان ليس جسما ميكانيكيا بالمعنى الفيزيائي وبالتالي ليس مجبرا أن يلتزم بالنسبية الخاصة إذا صح التعبير وصحيحَ أن النسبية العامة تدرس الكون ككل وبالتالي تدرس الزمكان وانحنائه بوجود كتلةُ أو طاقةُ إلا أن النسبية الخاصة التي وضعت فرضية سرعة الضوء بأنها أقصى سرعةُ لجسمُ لا تضع حدوداٍ على حركة الزمكان نفسه. مع بدايات القرن العشرين نشأت فيزياء الكم أو ميكانيكا الكم وهي محورْ وأصلْ الفيزياء الحديثة التي تدرس العالم الصغير وهو عالمَ عشوائيَ بامتيازُ والزمن فيه يمكن وصفه بالفوضوي في بعض مناحيه وتعتمد النماذج الفيزيائية عن الطبيعة على النطاق الطاقي الذي تعمل فيه أو على المدى المسافي الذي تدرسه فكلما زادت الطاقة أمكن دراسة مسافاتُ أصغرِ أي أنه من الممكن القول أن النظرية الفيزيائية (النموذج الفيزيائي) عن الطبيعة دالةَ في الطاقة (أو المسافة) ففي النطاق الطاقي للعناصر الكيميائية مثلاٍ ما بين عدة الكترون فولت (وحدة طاقةElectron Volt = eV ) وبضع مئاتُ من الكيلو الكترون فولت (Kilo-Electron Volt = KeV)  نجد أن النموذج الذري شديد النجاح في فهم وتفسير الطبيعة وعند طاقاتُ أعلى تلك التي عندها لا يعود للذرة ولا لنواتها وجودَ (تكون قد تفككت إذا صح التعبير) أي في حدود البليون الكترون فولت (GeV) فما فوق ذلك لدينا النظرية الفيزيائية فائقة التفوق والنجاح وتسمى بالنموذج القياسي للجسيمات الأولية والتفاعلات المتبادلة الرئيسية (Standard Model for Fundamental Particles and Interactions) وعند طاقاتُ فائقة العلو (Ultra High Energy) نصل إلى النظريات التوحيدية الكبرى (Grand Unified Theories = GUTs) التي توحد ما بين النموذج القياسي المذكور أعلاه وبين الجاذبية (أي مع النسبية العامة لأينشتين) في إطار ما يسمى بالجاذبية الكمية (Quantum Gravity) مثل نظرية الأوتار (String Theory) ونظرية الأوتار الفائقة (Superstring Theory) والأحدث والأكثر أهمية هي النظرية التوحيدية لهذا كله وهي النظرية التي سماها إدوارد ويتن (Edward Witten) بالنظرية إم (M) ولا يصح بأي حال من الأحوال ذكر اسم هذا الرجل العظيم دون الإشارة إلى أنه – على الأقل في تقدير هذا الكاتب – هو أعظم فيزيائي على قيد الحياة وهو أيضاٍ – بناءٍ على دراساتُ إحصائيةُ- العِالم الفيزيائي الأكثر حضوراٍ علمياٍ على مر التاريخ (أي الأكثر ذكراٍ وتنويها لدى عموم الفيزيائين وغير الفيزيائيين في الدوريات والمنشورات العلمية – The most cited). إذاٍ: العالم الصغير تحكمه الفيزياء الكمية وذلك لأن الصفة السائدة للعالم الصغير هي العشوائية واللا انتظام وبالتالي اللايقين في البنية النظرية نفسها وليس بسبب أخطاء القياس فعشوائية الحركة في العالم الصغير تعني أننا لا نستطيع مهما وصلت قدراتنا التكنولوجية التنبؤ بالأحداث مثلما نستطيع في فيزياء العالم الكبير فعلى عكس الحالة في العالم الكبير نجد أن ميكانيكا الكم هي فيزياء لا يوجد فيها الاحتمالين (صفر بالمئة) و(مائة بالمائة) بل توجد كل الاحتمالات الأخرى بينهما أي توجد كل الاحتمالات للحدث ماعدا احتمال حدوثه أو عدم حدوثه فهذا العالم لا يقيني ويدخل في ذلك أن الزمان والمكان فيه لا يقينيان بامتيازُ فعلى سبيل المثال لا يستطيع أي إنسانُ على وجه الأرض أن يحدد مكان إلكترون أو زمانه قبل القيام بالقياس كما أنه لا يستطيع أن يتنبأ إلى أين سيذهب ومتى سيذهب هذا الإلكترون إذا وجد بالصدفة في مكانُ ما أو زمانُ ما وكل ما يستطيع الإنسان معرفته هو الأماكن التي يتردد عليها هذا الإلكترون أو الأزمنة التي يكون فيها موجوداٍ في هذه الأماكن وهي لانهائية العدد وعدد مرات تردد الإلكترون على كلُ من هذه الأماكن والأوقات لانهائية العدد أي كل ما يمكن معرفته هو التوزيع الإحصائي لمكان وزمان تواجد الإلكترون والذي نسميه التوزيع الاحتمالي (probability distribution). هناك إشكاليةَ إضافيةَ في إمكانية إدراكنا للعالم المادي مستقلةَ تماماٍ عناº وتتمحور هذه الإشكالية في طبيعة الواقع –إذا صح التعبير- ومدى قدرتنا على إدراك العالم الصغير (الذري والتحت ذري) فنحن لا نستطيع أن نقيس سرعة الإلكترون وموضعه معاٍ كما لا نستطيع قياس طاقته وزمنه معاٍ وبتدخلنا أثناء عملية االقياس نكون قد غيرنا النظام الذي نقيس وذلك لأن الحركة في العالم الصغير عشوائيةَ ولا نستطيع تحديد قيمها إلا في المتوسط فقط. ويحكم العالم الصغير مبدأَ يسمى مبدأ اللا يقين لهيسنبرج (Heisenberg Uncertainty Principle)º وهذا ليس لقصور تكنولوجي في أجهزة القياس أو بسبب محدودية حواسنا وعليه فإننا لا نستطيع الحصول على معرفةُ مطلقةُ عن هذا العالم حتى لو وصلنا إلى أفضل دقة قياسُ ممكنةُ إذ إن وجود العالم الصغير بما في ذلك الزمان هو وجودَ عشوائيَ بطبيعته ولهذا لا يمكن لنا أن ندرك أو نقيس الزمن بشكلُ تامُ بأي حالُ من الأحوالº وفي الفيزياء الكمية تجربةَ شهيرةَ حول سلوك جسيمات الضوء (الفوتونات) كموجاتُ ميكانيكيةُ كميةُ تسمى تجربة الشق المزدوج فيها تحدث ظاهرة التداخل الضوئي والمهم هنا بالنسبة للزمن أنها تبين أن فوتوناٍ يمكن أن يوجد في زمنيين أو في مكانيين في نفس الحدث أو في آنُ واحدُ إذا صح التعبير وهذا جزءَ مما نقصده بفوضوية الزمن في العالم الصغير وهذا قد يبدو عجيباٍ لغير المختصين ولكنه الحقيقة الميكانيكية الكمية شئنا أم أبينا. في حالات الطاقات العليا بحسب النموذج القياسي للجسيمات الأولية المشار إليه سابقاٍ أي بحسب النسبية الخاصة لإينشتين وميكانيكا الكم (نلاحظ أن النسبية الخاصة توحدت مع ميكانيكا الكم مبكراٍ في تاريخ الفيزياء في حين أن توحيد ميكانيكا الكم والنسبية العامة مازال قيد التنفيذ تحت مسمى الجاذبية الكمية  كما أسلفنا) وجدنا أن الطاقة والمادة صنوان والمكان والزمان موحدان في الزمكان والطاقة والزمان مرتبطان بمبدأ اللايقين لهيسنبرج الذي ينص على أن حاصل ضرب اللا يقين في الطاقة في اللا يقين في الزمن هو مقدارَ ثابتَ دائماٍ يساوي أو أقل من نصف ثابتُ اسمه ثابت بلانك (نسبة إلى العظيم ماكس بلانك (Max Planck) مؤسس ميكانيكا الكم الأول وهذا الثابت شديد الأهمية في الطبيعة ويسمى أحياناٍ بالـ”كم” (Quanta) وعليه فإن الزمن يتداخل هو والمادة لا يقينيا إذا صح التعبير فضلاٍ عن كون الجذب المادي يحني الزمان ويبطئه وقد يوقفه كلياٍ وفضلاٍ عن أن محور الزمن عند هذه المسافات الصغيرة مفتوحاٍ تماماٍ للأمام وللوراء بشكلُ متكافئُ أي أن الحركة نحو الماضي موجودةَ مثلها مثل الحركة نحو المستقبل.  هل للزمكان بدايةَ ونهايةَ¿ هذا هو السؤال الأكثر صعوبةٍ على الإطلاق وليس لدينا إجابةَ عليه ولا يعتقد كاتب هذه السطور أنه من الممكن الإجابة على هذا السؤال بل لا يعتقد أن الفيزياء معنيةَ به أساساٍ والمشكلة هي أن الزمكان ككل في الفيزياء ليس معرفاٍ بشكلُ دقيقُ بل إن الزمكان في نطاقُ مسافيُ متناهُ في الصغر غير مستقرُ البته ومن هنا نشأت أفكار الحْفر الدودية الشهيرة (Warm Holes) للانتقال بين عوالمِ متوازيةُ ممكنةُ لكل منها تاريخها طبعاٍ وبالتالي تصبح قضية البداية والنهاية لزمكان غير معرفُ بدقةُ أمراٍ عبثياٍ هذا ليس رأي كاتب هذه السطور فقط بل الغالبية العظمى من الفيزيائيين وفي مقدمتهم الجميل إدوارد ويتن وهنا يكون الاختلاف مع القدير هوكنج فهو يسعى جاهداٍ للإجابة على سؤال البداية والنهاية ما استطاع وإحدى السيناريوهات المحتملة للإجابة تنطلق من أن الزمكان له شكلَ هندسيَ وهذا صحيحَ فإذا كانت الهندسة الزمكانية كرويةٍ مغلقةٍ (أو أي شكلُ هندسيُ آخر مغلقُ) فإن موضوعا البداية والنهاية يكونان محسومين فلا معنى لهما إطلاقاٍ فالكرة لا بداية ولا نهاية لها كما نعلم جميعاٍ ومن غير المنطقي أن يسأل المرء أين بداية الكره أو أين نهايتها فكل نقطةُ فيها تكافئ كل النقاط الأخرى تماماٍ وعليه فالهندسة الكروية أو المغلقة بصفةٍ عامةٍ ستخرجنا من نفق البدايات والنهايات ولكن الدلائل الفيزيائية الراهنة تشير إلى أن الكون مفتوحَ وليس مغلقاٍ وهو يتمدد باستمرارُ ونذكر هنا أن جائزة نوبل في الفيزياء للعام 2011 منحت لثلاثة علماءِ اكتشفوا أن الكون لا يتمدد فحسب بل أن تمدده يتسارع فإذا كانت الهندسة الكروية – أو المغلقة بصفةُ عامةُ – حلاٍ لمشكلة البدايات والنهايات فإنها تتناقض مع معرفتنا بأن الكون مفتوحَ ولذلك جاء هوكنج بفرضية الزمان التخيلي إلى جانب الزمان الحقيقي بحيث يكون محور الزمان التخيلي في الزمكان عمودياٍ على محور الزمان الحقيقي ويكون الكون ذا هندسةُ كرويةُ على محور الزمان التخيلي وهندسةٍ مفتوحةٍ تتمدد على محور الزمان الحقيقي وبالتالي نضرب عصفورين بحجر بحل مشكلة البدايات والنهايات على محور الزمان التخيلي مع الإبقاء على الكون مفتوحاٍ على محور الزمان الحقيقي والحقيقة أن وجود زمانُ تخيلي في الزمكان لا يغير قوانين الفيزياء وبالتالي لا مانع من وجوده في النظرية الفيزيائية فكل الفيزيائيين يعرفون كيف يحولون متغيراٍ من الحالة الحقيقية إلى الحالة المركبة من جزءين حقيقي وتخيلي دون الإضرار بنتائج القياس النهائية ولا يجب أن يتصور غير المختصين بأن القيم التخيلية في الفيزياء لا معنى لها أو أنها المقابل الفيزيائي للتخيل المعنوي أو الأدبي أبداٍ فالجزء التخيلي من أي معادلةُ رياضيةُ يحمل قيماٍ فيزيائيةٍ لها معنىٍ ووجودَ ولكن ومع هذا في المحصلة هل لهذا الزمان التخيلي وجودَ موضوعيَ¿ الله أعلم! ولكن من حيث المبدأ الرياضي لا اعتراض عليه. يجب التنويه لغير المختصين أن الزمكان في النظريات التوحيدية متعدد الأبعاد (عشرة أبعاد بالإضافة إلى الزمان مثلاٍ) وهذا ليس مهماٍ بالنسبة لنقاشنا حول الزمان ولكن وجبت الإشارة إليه والمهم هو التأكيد أن كلمة تخيلي هنا ليست كلمةٍ أدبيةٍ أو محض مفردةُ لغويةُ بل كلمةَ ذات معنىٍ رياضيُ واضحُ ومحددُ تماماٍ فالرقم التخيلي في الرياضيات هو ما يكون مضروباٍ في الجذر التربيعي لسالب الواحد الصحيح والمهم هنا هو القول أن زمان هوكنج التخيلي هذا جاء لتطوير نظرية ويتن التوحيدية (إم) وهي أعم وأشمل النظريات وتتضمنها جميعاٍ من حيث المبدأ وقامت على تعميم نظرية الوتر الفائق إلى “برينات” – كلمة برين هو اختصار للكلمة الإنجليزية ممبرين ومعناها غشاء(Membrane) من خلال الاكتفاء بالجزء الأخير من الكلمة بدون الحروف الثلاثة الأولى من اليسار أي أن الوتر عْمم فأصبح غشاءٍ وكل الغشاءات -إذا صح التعبير- تشكل النظرية (إم) المهم هنا بالنسبة للزمان هو أنه في إطار الزمكان قد يكون تخيلياٍ وحقيقياٍ في آن وفي هذا الإطار تنشأ إشكالية أن هناك احتمالاتُ عديدةٍ وهندساتُ مغلقةٍ عدةٍ ممكنةٍ وبالتالي تواريخِ عديدةُ ممكنةُ للزمان فضلاٍ عن أن الأحداث أساساٍ لا تقع في نقاطُ محليةُ في الزمكان كما هي الحالة في نسبية إينشتين أي أن الأحداث غير مزمنةُ محلياٍ (ليس للحدث نقطةَ واحدةَ مْعرفةَ على محور الزمان) وبالتالي يكون المعنى التقليدي للزمن لا وجود له هذه اللا محلية للأحداث هي التي تمنع النقاط الزمكانية الموجودة في نسبية إينشتين من التحول إلى نقاطُ مفردةُ لا نهائيةُ غير مرغوبُ فيها كما تحدثنا سابقاٍ وهذا بالتحديد أهم إنجازُ لنظرية الأوتار في توحيدها الجاذبية مع ميكانيكا الكم ولكن هذا الإنجاز يْغير مفهوم الزمكان المحلي وبالتالي يغير المفهوم التقليدي للزمن فالمفهوم التقليدي المحلي للزمن هو أن لكل حدثُ نقطةَ (محل) على محور الزمن وهو مفهومَ موجودَ لدى كلُ من نيوتن وإينشتين وهذا المفهوم يصبح غير موجودُ في في نظرية الأوتار والبرينات والنظرية إم فالزمكان وليس الزمان فقط يفقد محليته.  

ما هو الزمن إذا¿ دعونا نلخص ما نعرف بأن نقول أن الزمان قد يرتبط بالمكان وقد ينفصل عنه والزمن قد يكون منتظماٍ وقد لا يكون وقد يسير في خطُ مستقيمُ وقد ينحني وقد يسير وقد يتوقف وقد يتجه إلى الأمام كالسهم نحو المستقبل فقط وقد يكون مفتوحاٍ نحو الماضي والمستقبل في نفس الوقت بحريةُ تامةُ وقد تدق ساعته بثباتُ وقد تبطئ أو تسرع بحسب السرعة ونوع الراصد وقد يكون مستقلاٍ بذاته لا يؤثر ولا يتأثر بالأحداث وقد لا يكون مستقلاٍ بذاته بل يتأثر ويؤثر بالأحداث وقد يكون يقينياٍ وقد لا يكون وقد يكون له وجودَ فريدَ وحيدَ وقد لا يكون فمن الممكن كما رأينا أن يوجد جسمَ ما في زمانين كما هو ممكن أن يوجد جسمَ في مكانيين وقد يكون الزمن حقيقياٍ وقد يكون تخيلياٍ (بالمعنى الرياضي وليس بالمعنى الأدبي) وقد تكون له نهايةَ وقد لا تكون وقد تكون له بدايةَ وقد لا تكون وهو يتحرك بشكلُ يبدو سرمدياٍ وأحياناٍ يقف بشكلُ يبدو نهائياٍ وقد يكون هناك تاريخَ واحدَ في الفيزياء وقد تكون هناك تواريخْ عديدةَ وهكذا نجد أن الزمان هو كل ذلك وربما أكثر وعليه كما يبدو لهذا الفقير إلى الله أننا لا نستطيع بالرغم من كل ما أوتينا من علمُ (على الأقل في الوقت الحالي) أن نجيب بشكلُ قاطعُ مانعُ عن السؤال: ما هو الزمن¿ مع إننا نعرف عنه الكثير بل الكثير جداٍ ونعطيه قدراٍ هائلاٍ من الاهتمام والجهد في نشاطنا البشري بحثاٍ عن معناه وماهيته وفقهه. لا بد لي هنا أن أضيف شعوراٍ حول الموضوع وبما أنه مجرد شعورُ ولا يستند إلى كل ما جاء أعلاه فإنني أبرئ نفسي منه إذا ما وقفت أمام القاضي الذي أحترم وأدين له بالولاء وهو القاضي “فيزياء” ولكنني أكتب للقارئة الكريمة وللقارئ الكريم هذا الشعور بما يمكن أن يوصف بأنه حديثَ خارج النص فأقول: يبدو لي أن المفهوم الإنساني للزمن المرتبط بالمشاعر والعواطف لا يختلف كثيراٍ عن مفهوم الطبيعة للزمن في صفاته فللإثنين قواسمِ مشتركةُ بينهما فكلاهما به من الغرابة ما بالآخر يسرعان ويبطآن يسيران ويتوقفان يعودان إلى الماضي كما يسيران نحو المستقبل ينحنيان مثلما يسيران في خطُ مستقيمُ بل أن مسائل مثل توارد الخواطر أو السرحان أو أحلام اليقظة قد تقابل ما رأيناه في ميكانيكا الكم من حدثُ واحدُ في زمانين أو مكانين وهكذا والفارق الرئيس بينهما هو أن الزمن الطبيعي قابلَ للقياس في حين أن الزمن الإنساني لا قياس له فإذا كان ميتشيو كاكو يقول “أننا كلما فهمنا الزمن أكثر كلما أدركنا أن الزمن هو الذي يصنع منا بشرَ فريدين” وإذا كان إينشتين قد قال في رسالة تعزية في وفاة أعز أصدقائه “بالنسبة لنا نحن الفيزيائيون الفصل بين الماضي والحاضر والمستقبل ليس إلا خدعةٍ ولو أنها خدعةَ مقنعةَ” فإنني أميل إلى رأي ريتشارد فاينمان (Richard Feynman) في أنني أفضل أن أعيش في حالة لا يقين عن أن أعيش في حالة الاقتناع بأجوبةُ قد تكون خاطئةٍ ولذلك أعود إلى كتابةُ سابقةُ لي في هذه الجريدة الموقرة بعنوان “الإدراك والواقع رؤية فيزيائية” وأقول: أن ماهية الزمن المطلقة هي شأن لا علاقة له بالفيزياء أساساٍ ولا شك أن هذا الموضوع هو شأنَ شاغلَ للفلاسفة مثلما هو شأن أسئلةُ أخرى كبرى محيرةُ شغلت وستظل تشغل الفلاسفة والفيزيائيين إلى يوم الدين والمشكلة الرئيس هي أن أي نظريةُ عظمى شاملةُ تتضمن فيزياء الكم والنسبية العامة وحتى كل التواريخ الممكنة للكون ستقف أمام معضلةُ نعرفها نحن الفيزيائيون جيداٍ عندما نقوم بحل أي مسألة ألا وهي تحديد الشروط الابتدائية للمسألة وهذا في رأي كاتب هذه السطور عودةَ إلى نقطة الأصل أو ما هي البداية¿ وربما يتفق هذا مع الفلسفة الوضعية وهي ترى كما قلنا سابقاٍ أن الفكر الإنساني معني فقط بالظواهر التي يستطيع أن يدركها الإنسان بإحساسه أو قدراته التكنولوجية وما بين هذه الظواهر من علاقات وقوانين واليقين يأتي من التجربة أو من العلم التجريبي وعليه لا معنى ولا مجال للبحث عن علل الأشياء وطبائعها الغائبة وصحيحَ أن هوكنج جاء بالزمان التخيلي حلاٍ إلا أنه – دعونا نقول – ما زال قيد البحث وليس مقنعاٍ بعد هنا يكون اختلافي مع العظيم ستيفن هوكنج الذي يصر أطال الله في عمره على ضرورة إجابة السؤال! فهو يرى أن أي عالمُ حقيقيُ لا ينبغي أن يتخذ موقفاٍ ضد الأسئلة المطلقة فهو يرى أن قوانين الفيزياء إذا كانت صحيحةٍ يجب أن لا تقف عن حدود الـ “مالانهائيات” فيقول أن علينا “أن نحاول فهم بدء الكون على أساس العلم” ثم يعود ليعترف بأن هذه “مهمة تتجاوز قدراتنا” ولكنه يستطرد قائلا “ينبغي على الأقل أن نقوم بالمحاولة” فتحية له وتحية لكن ولكم أجمعين طيب الله أوقاتكن وأوقاتكم وجعل الزمان ينحني لكن ولكم فلا تنحين ولا تنحنون له أبداٍ. * أستاذ الفيزياء النووية والجسيمية وميكانيكا الكم صنعاء- 2014-8-1